في سكونِ الأديانْ حوارُ حياةٍ وإبحارٌ في النعيم

 

 

 

 

 

 

 

من هنا تنعمُ الإنطلاقةُ بدفء الخيار وحرية الاختيار، نحن شركاء في رحلة البناء الحضاريّ لا مفار، نؤمن بوجوديّة بعضنا البعض كـــنُظراء في النوع الإنساني . هُويتنا عربيّة، ديانتها سماويّة تؤمن بالله الواحد الأحد.
 ولطالما نادت التعاليم الدينيّة والكتب السماويّة بالتعارف والتعاون المُشترك والمحبة بين الناس على مختلف أجناسهم وعقائدهم. قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (سورة النحل: 125) . 
كما قال السيد المسيح : "أحبّوا بعضكم بعضاً". 
فــــها هي التعاليم الروحيّة تقضي بجعل التعارف والمحبة بين الأمم والجماعات الإنسانية فيها، سبباً رئيسياً لخلقهم ووجودهم. وهذا التعارف لا يمكن أن يتمّ إلا عن طريق التعاون «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ». ويقول السيد المسيح أيضاً :" أحبب قريبك كنفسك" وليس القريب هنا من صلة الرحم والدم او القربى المباشرة إنما كل شخص تلتقي به وتتعايش معه….
لقد انطلقت سبل الحوار بين الأديان بشكل واضح منذ القرن الماضي وتبلوّرت أكثر فأكثر في السنوات العشر الأخيرة، واضعة نُصب عينيها فعاليّة التعرّف الى الآخر، واحة خلاّقة ووسيلة أساسيّة بين البشر، لتحقيق الذات الإنسانية. ذاك أن الإنسان يستمدُّ كيانه من خلال العلاقات التي يُقيمها مع الآخرين. والوجوديّة تستمدّ كيانها من الانفتاح المتزايد الممزوج بعامل الثقة، فبدونهما نبقى أسراء للأحكام المسبقة بمختلف أنواعها الثقافيّة والفلسفيّة والدينيّة والتقاليد… وتالياً لا يتم اللقاء ولا حتى التعاون وبناء مستقبل واعد للأجيال القادمة. والنتيجة إنغلاق مُتزايد وتصرُّفات مبنيَّة على نظرة الطرف الواحد. ولعلَّ الاحترام والإصغاء وقبول الاختلاف، شروط أساسية لماهية الحوار وركائزه الكامنة بالاستعداد المسبق عند طرفي الحوار للقاء، بهدف إغناء حياتهم الدينيَّة الخاصَّة وتعميقها وتوسيع آفاقها.
ننطلق اليوم من عالم تُشرذمه آفة التعصّب والتفرقة، وطبعاً نطمحُ لنتحدّى هذه المعضلة، فنرتقي الى أساس متين لقاعدة تعايش صلبة، نُرسي من خلالها قواعد عيش نموذجيّ، تصبو إليه العقول المنفتحة اليوم التي تنادي بالسلام والوئام والتعاون على أساس المواطنة الحقيقية والصادقة.
أرادنا الله أمماً متعدّدة نتعايش معاً في هذه البقعة من العالم، أمام التحدّيات العالميّة والمحليّة ومظاهر العنف الطائفي والديني. نعم التعدّدية هي تنوّع ثريّ للأوطان تنضجُ بثقل فئاته وأصالة قيمها مع أهمية انسجامها وتآلفها في آن معاً.
 فـ "تعالواً معاً الى كلمة سواء" من خلال تجربة شبابيّة نموذجيّة رائدة، يمكن لرونق معناها أن يمتدّ على امتداد الوطن العربي، لا بل الى كل الأوطان التي تطمح فئاتها الى التعايش والإندماج في بوتقة آفاق الآخر. 
 
قصة طوني وسليمى وسفر الى الآخر
*إختباران يحملان في طيّاتهما، الرمزيّة الجديدة لروح الشباب الثائر، الرافض لمتراس التقاذف الطائفي، المؤمن بالانفتاح على مكنونات الآخر، الراغب بالتعرّف بشغف شديد على ما يجهله لدى الآخر، بهدف كسر هاجس الخوف والجهل. وفي التالي أجمل ما لدينا:
"الإنسانية والحوار هدفي الأسمى والحياة ميزانها محبة الآخرين ومعرفة حسن التلاقي والتعاطي معهم على حد سواء."
 هكذا تربّت سليمى أحمد إبنة 25 عاماً من بيروت- طريق الجديدة ، نضرة بتفكيرها، سامية بشموخ مبادئها الإسلامية وتربيتها المنفتحة على الأديان الأخرى. إختارت رفاقاً لها، باقة متنوعة من جميع المذاهب والطوائف المضيئة في سماء لبنان، تلك الطوائف المُنيرة بتنوعها سماء بيروت، موطن سليمى.
ولطالما قررت سليمى كسر الهواجس بين المجتمعات وإقامة حوار بنّاء مع محيطها، فاندرجت تحت لواء جمعيات تحثّ على التلاقي وتقبّل الاختلاف بعيداً عن جعل العلائق عقدة للخلاف والتشرذم.
سليمى التي عانت من الطائفية في بلد تآكله صدأ الإختلاف وعقدة الإشارة بالإبهام الى ذاك الآخر والنظر إليه نظرة مختلفة، نظرة الإدانة والخوف " وحذار أن تقترب فهناك نار جهنم الحمراء"!!
أما في المقلب الثاني، يؤمن طوني باسيل 29 عاماً، أن الحياة مقياسها المعرفة والإيمان إذ أنهما تؤامان سياميان لا ينفصلان، هو الذي لطالما قرّر خوض رحلة الأنا بطريقة مختلفة عن الواقع والسير قدماً في غمار لا تشبه واقع لبنانه سابقاً. رحلته هنا تعكس ثقافة موطنه منذ الأجداد أيام العزّ، بعيداً عن “التشوهات الخلقية” التي زرعتها الحرب الأهليّة المنبثقة عن عناقيد غضب تلك البنادق اللئيمة، الساطعة بنجاستها  التي زرعت الطائفيّة بين المسيحيّ والمسلم على أرض لبنان، بأبشع صورها لأمثال طوني كما للأجيال التي سبقته. طوني الذي اتخذّ لنفسه  قضية أخرى، يجاهر باختباره أمام العلن ويرفع للأمة بأجمعها، أهمية ذاك الإختبار الأخلاقيّ- العقلاني والديني بامتياز. فقضيته تتعالى عن التحيُّزات والهويات والعرق واللون والدين والطائفة وحتى تقاسم المناطق وفق الطوائف التي أدت اليها الحرب الأهلية في لبنان سابقاً.
ويبحث طوني دوماً عن خبايا الآخر في مكنوناته، فيجد أن الكتب السماوية واحدة والدين لله والوطن للجميع. وما يفرّق المجتمعات والشباب بعضها عن بعض اليوم كما في السابق، هو النفوذ السائد، فالدين هو واحد الجوهر كما أنَّ المجتمع نابض بروح شبابه الثائر المنتفض بحق على أخطاء الماضي التي لم تبلِ بلاء حسناً.
في حنايا التجربة
** طوني وسليمى أنموذجان من نخبة الشباب اللبناني خصوصاً والعربي عموماً، قررا نقل تجربتهما الى المجتمعات كافة التي تجهد لأن تتزيّن بحُلى التواصل والتحاور على مستوى الحضارات، لتسمو بالانسانية نحو الأعلى. فمن خلال مبادرتهما الخلاّقة التي اندمجت مع رؤيتي أنا المُتخصصة بالإنتاج الإعلامي الهادف والمؤمنة بحوار الأديان وأهدافه السامية لرفع مستوى التعايش الى أقصى الحدود، وانطلاقاً من إيماني بأهمية البحث في شؤون الشباب وتطلعاته وكيفيّة رؤيته للحوار، كوني مستشارة إعلامية لجمعيات تتعاطى حوار الأديان أيضاً ولنشاطي الرئيسي في العديد من الندوات والهيئات الشبابية الداعية الى الحوار والتلاقي، فقد قرّرت نتيجة لذلك وإيماناً بمبادرة طوني وسليمى، خوض هذه التجربة الواقعيّة ومرافقة الحالتين النموذجيتين في اختبارهما الهادف والنابع من إرادة حقيقية ، لنقل تجربتهما وشهادتهما ونتيجة الفائدة الى الجميع أينما حلّوا، كما لبثّ جرأة نبض الشباب الحالم بالتغيير والتطوير وكسر الهواجس.
إليكم أقدّم هذه التجربة التي عايشها كل من طوني وسليمى والتي جعلت كل منهما يختبر مجتمعاً آخر بعيداً عن مجتمعه، في إطار رحلة شيّقة تصلح لأن تكون أمثولة للمجتمعات المتعايشة كافة.هلمّوا لننتقل في خضم رحلة من العمر في سكون الأديان السماوية، مع سليمى وطوني، كلٌّ منهما في محيطه وعالمه الخاص، لنرتقي بهذين النموذجين فتُعمّم تجربتهما على العالم أجمع.
***مع  بدء شهر رمضان المبارك، ترتفع الصلوات في الشهر الفضيل الى الله تعالى وتقدّم الزكاة وتبذل الأعمال الخيّرية وفي ختامه يحتفل مسلمو العالم بعيد الفطر المبارك. في أحد أيام الصوم المبارك الذي صادف نهار الجمعة، دُعي طوني باسيل من قبل صديقه محمد الشغري للجلوس معاً الى مائدة الإفطار. طوني الذي اعتاد الذهاب الى منزل محمد، يعرف جيداً كيف يحترم عادات وتقاليد وديانة صديقه.
طوني يصوم مع محمد في شهر رمضان  
في هذا اليوم خطرت لـ لطوني فكرة المشاركة في الصيام مع محمد، عنواناً لمحبته ومساواة مع هيبة المناسبة التي دعي اليها. كان طوني عازماً على تنفيذ رغبته وفقاً للأصول والتزماً مطلقاً بالوقت وحتى بالتقاليد والشعائر، وذلك كي يشعر بالتقارب الروحيّ وبأهمية المناسبة ومعانيها ولتكن مشاركته بنّاءة وفعّالة وحقيقية وفاعلة في المناسبة في الآن عينه، كذلك ليشارك محمد روحيّة الجوهر.
 طوني كان فرحاً في تمضية نهار بأكمله مع محمد، وعبّر عن فرحه واختبار مشاركته، فقال: " إنه يوم مبارك فعلاً، فيه اختبرت صعوبة الصيام وأهمية التضحية التي يقدّمها المسلم لله تعالى في هذا الشهر الفضيل، شهر الاتحاد بنورانيّة التقوى وعفاف الاناة".
 يكمل طوني بإخبارنا عن تجربته التي لا يعتبرها تضحية منه، إنما إحساساً بأهمية المشاركة مع صديقه الصدوق والمفضّل. قال:" للمسلم صلوات وفروض يقوم بتأديتها خلال النهار وبأوقات مُحدّدة، بها يكرّم الخالق ويتضرّع إليه طالباً منه غفران الذنوب والمعاصي. أخبرني محمد عن أهمية الصلاة والتواصل من خلالها مع الخالق وأهمية أدائها في تطهير النفوس من الضغينة. عقب ذلك، قرّرتُ أن ألج في سكونها وروحانيتها، وكما قرّرت الصيام في هذا اليوم، كذلك قرّرت الذهاب مع محمد للصلاة في المسجد، القريب من منزله."
يُكمل طوني في سرد تجربته في الانفتاح على الآخر ومشاركته في احترام معتقداته وهو يعرف تماماً كيف يستنبط جوهر المناسبة لتوحيد النوايا. " ذهبنا الى المسجد، هناك حيث روعة السكون فدخلت الى حنايا بيت الله بشغف. لكن قبل أن أدخل كان عليّ أن أقوم بخلع حذائي، كما هي العادة الروحية لدخول مكان طاهر. هنا فعلت كما يجب حينها اختلجني شعور بالخشوع والطمأنينة في هيبة المناسبة. أعطاني محمد تعليمات للصلاة متى أقف ومتى أسجد وكيف… طبعاً اذا أحببت أن أقوم بذلك وهذا خياري. فوافقت على الفور لكن وبما أنني لم أحفظ سوى القليل من الصلاة قرّرتُ أن أستمع الى مضمونها والى تلك الخطبة الراقية التي تعادل العِظة في كنيستنا.
 هناك لم تختلف الكلمات، لم تختلف النوايا الطاهرة، لم يختلف الجوهر حتى ولم تختلف الوصايا ولا حتى النصائح السمحة الداعية الى المحبة والمصالحة وعمل الخير… لا يُمكنني وصف أجواء الخشوع التي سادت في حنايا قلبي وروحي ولا حتى السكينة التي ظلّلت جوهر فكري عقب تلك الصلاة. إستمعت الى روحيّة الصلاة كما استمتعت بحنايا نقاوة الكلمات وجوهرها الراقية خلال الصلاة المباركة، حاولت أن أحفظ منها ما استطعت وأتمعّن، لكن أكثر ما علق في وجداني هو كلام (الله وأكبر) وأهمية هذه الشُعلة المضيئة في تاريخ الإسلام والدين السماوي.لا أحد أكبر من الله سبحانه وتعالى".
خرج طوني من المسجد وهو ينظر من حوله مدهوشاً ويسأل عن الإختلاف الذي يتسلّل الى النفوس فيُسبّب الخلاف. تمعّن في مضمون الصلاة فلم يجد فوارق تُلغي الآخر ولم يجد حتى عنصر الإدانة. لم يجعل انفتاحه على الآخر يؤثر به ويجعله مقتنعاً بما استنتج ، بل ذهب الى أبعد من ذلك بكثير، ليُشرّح التحليلات والاستنباطات المُجتمعية، علّه يجد عناصر الخلاف أو التفرقة في جوهر الدين الذي يدعي الى عبادة الله الواحد، فلم يجد سبباً لهذا، فأردف قائلاً:" نحن وُلدنا ننتمي الى أديان مُختلفة كما هي حال الشعوب المُتعايشة وعلينا ان نُقبل على محبة الآخر وتفهمه لنجدَ الإقبال عينه في المقابل. ليس عليّ أن أُدين الآخر ولا حتى أن أُدان من قبله، إنما عليّ أن أعرف السُبل الواضحة لكيفيّة المواجهة والتعاطي المتبلورة بالاحترام والقبول".
لطالما اقتنع طوني دوماً أن خارطة الشعوب المُتعايشة تكمن في نظرية جوهر الصلاة على أنه الإتحاد المُطلق مع الله، وفي وصاياها العمل الصالح وفي معانيها السكينة والسلام الداخلي. هكذا خرج طوني من المسجد منسجماً مع نفسه في غبطة جعلته يسمو بطهارة فريدة حملها معه كذكرى وحفظها وجعلها فعل تقوى. حمل طوني التلاقي والانسجام مع ديانته السموحة الداعية الى السكينة والسلام والمحبة والتلاقي والإنفتاح على الآخر. إلا ان تساؤلاً بقي في وجدانه ألا وهو لماذا نهاب الآخر ونرفض عدم الاقتراب منه او الاختلاط معه غالباً او حتى الانفتاح على ديانته؟
الحوار الحقيقي ينتهي  بخروج الجميع منتصرين
إستغرب  قائلاً: "نهابُ الآخر فيبقى بالنسبة لنا لُغزاً حائراً لا نريده أن يدخل عالمنا ولا حتى أن نستمع الى عالمه او حتى نشاهده على حقيقته، نخشى الولوج الى مجتمعه او حتى الإختلاط معه!! ربما لأننا ربينا على اعتقاد الآخر المحظور الذي يُحظّر الاقتراب نحوه، ربما لأنه قد ينقل إلينا معتقدات مغايرة أو حتى غير مُسالمة أو متناقضة مع ديانتنا وتقاليدنا. أما ما وجدتُه في الحقيقة بعد قراءاتي المُكثّفة واختلاطي المتواصل مع أصدقائي، أن الديانات السماويّة تدعو الى المحبة والحوار الذين يُشكّلان وعياً متبادلاً وجهداً إيجابياً ومنهجاً للتقارب. والغاية هي في البلوغ إلى فهم أكثر عمقاً للآخر، فعلى المسيحيّ أن يحترم أخاه المُسلم في إسلامه، كما على المسلم أن يحترم أخاه المسيحيّ في مسيحيَّته".
وبعدما رافق طوني رفيقه محمد طيلة النهار وخلال الصلاة، تناقشا في أمور وأمور صبّت في الاتجاه عينه: " لماذا نحن مختلفان" ؟ سؤال هاجس لا يزال يُردّده الكثير من الشباب اللبناني المُتأتي من بيئات مختلفة….إقترب موعد الافطار، فاجتمعت العائلة قرب الطاولة.
 لم نكن وحدنا المدعوين الى الوليمة، بل كانت مجموعة من الأطفال الأيتام هي الأخرى ضيفة على هذه المائدة الفاضلة. انها أوقات مهيبة تدعو الى التأمل والتفكير بالآخر المحتاج الى دفء الحنان والمساعدة.
قال طوني :"جلسنا حيث ما لذَّ وطاب، كان لا بد من أن أشرب الماء قبل تناول الطعام كي أروي ظمائي نتيجة الصيام الطويل الذي شعرت خلاله مع صديقي محمد بصعوبة الصيام وكذلك الحرمان من الطعام، كان بمثابة إحساس بحرمان الفقراء. هذا الشعور المزذوج اخترقني حتى أحشائي…. كان بالفعل نهاراً طويلاً، شعرتُ بأن شفتايّ قد تجمّدت من كثرة العطش وأن فمي بات غير قادر على الحراك… علمت أن أهمية الصيام هي التقيّد بلا شك بالتعاليم والسير على النهج السليم، إلا أن أبعاد المعنى تكمن في قهر النفس وقدرة الارتقاء بها نحو الاعلى حيث السكون والفضيلة. كما تكمن أيضاً بتهذيب النفس على الإمتنعاء عن الملذات والأهم الحثّ على التفكير بمساعدة الآخر. إذا هي أمور تلتقي بها الأديان، فترتقي نحو خالقها في خلد السماء حيث أدراج النعيم".
لم يجتمع طوني ومحمد لمجرّد اللقاء بل ثقل كل منهما من وجهة نظره، بإسقاطات وقناعات يريدها كل منهما، أن تتجسدّ في المجتمع. وقد أردف كل من محمد وطوني بخلاصة بسيطة وصريحة:" إن شكل الصيام واحد وجوهره واحد وعاداته متشابهة أما الهدف فهو التقوى والصلاة وعمل الخير. فأين الخلاف طالما أن جوهر الدين واحد؟"!!.
طوني كان مقتنعاً بأنه لا بدّ من المبادرة لكسر هاجس الجهل " قراري أن أتشارك مع صديقي محمد يوم الصيام لم يكن قراراً عشوائياً بلا هدف، إنما هادف وثاقب في رؤياه التي علمتني، أن الانفتاح على الآخر موهبة ومبادرة تكسرُ هاجس الخوف والابتعاد القسري غير المبرر. ذاك ان الانسان يبقى عدو لما يجهل. وإن الحوار الحقيقي لا ينتهي عادة بانتصار أحد أطرافه، بل بخروج الجميع منتصرين، لأنهم صاروا أكثر فهماً لذواتهم وللآخر وهكذا فعلت أنا ومحمد".
هنا من الضروري التنبّه والإعتراف أنَّ الحوار ليس رسالة تبشيريَّة، إنما مبادرة ترتكز الى اعتراف متبادل في البحث عن معرفة الآخر والعمل على استيعابه، بعيداً عن التعصّب وثباتاً لمنع الذات الإنسانية من العودة الى الخلفيات الباطنية التي سكنت في عقولنا ورسخّت أحكاماً مسبقة غير دامغة وغير مجدية إطلاقاً.
وسُليمى تحضُر قدّاس الميلاد مع ريتا
***  في المقلب الثاني، قرّرت سليمى أن تذهب الى المنطقة الشرقية وتحديداً الى الأشرفية، في إطار تجربة اخترناها جميعنا بحماس شديد لاختبار آخر فريد من نوعه. وتسمية المنطقة أتت وفق ما يطلق عليها بعد الحرب الأهلية "بالمنطقة الشرقية"، نتيجة للحرب الأهليّة التي قسّمت المناطق الى جهتين شرقيّة وغربيّة. وقد تقاذفتها خطوط التماس بالرصاص القاتل، ففرّقت أهل لبنان بعضهم عن بعض جغرافياً وعقائدياً وطائفياً وزرعت الضغينة في النفوس. ولا زالت تلك الضغينة جيّاشة، تقذف بشظاياها بين لحظة وأخرى، ولا تنفكُّ تبعث سُمَّ الطائفية والمذهبية بين أبناء الوطن الواحد .
سليمى قررت أن تعيش اختبارها بجرأة وأن تقضي يوم عيد الميلاد عند صديقة لها مسيحية تدعى ريتا فغالي، فتختبر معها أسلوب عيشها وطريقة تفكيرها ونمط المجتمع المحيط، بعاداته وتقاليده، تتعرف الى خبايا الآخر، تستمع أكثر فأكثر لتعذر جهلها، تقرأ في إنجيل ريتا فتجد أسمى الآيات الداعية الى المحبة والسلام وحب الآخر وتقبله.
تدخل الى الكنيسة بحجابها فتلفت الأنظار، تحيط بها نظرات ملؤها الحشرية، تسجد بخشوع  وتستمع الى عظة الكاهن فتجد السكون والطمأنينة.
تُقرر ان تنقل خبرتها الى مجتمعها، وتحاور في اختلاف المجتمع الآخر. الاختلاف وليس الخلاف ومنها نقاط التلاقي، فهم الآخر المختلف بعاداته وقيمه الدينية، وحول كيفية احترامه وكيفية الاندماج والتقبل ورسالة المحبة السمحة الواحدة.
بالطبع كانت هناك زيارات تقليدية بين سليمى وريتا سابقاً، لكنها كانت زيارات اعتياديّة لم تغص في العادات والتفاصيل… إلا أنَّ قرار سليمى في العيش يوم مميز كامل لدى ريتا، كانت له نكهة وسحر جاذب.
إنه عيد الميلاد في 25-12-2013 يوم يُشعُّ العالم بضيائه، كونه يحمل وداعة السيد المسيح الذي أتى الى العالم ليبشّر بالخلاص. يوم تتلألأ فيه السماء بميلاد المسيح المتواضع. يوم المحبة والسلام. يوم يجمع روح التسامح وتواضع النفوس. صحيح للعيد عادات تتخلّلها الزينة والمائدة والمعايدات والهدايا، الا أن طابع العيد هو تهيأة النفوس لاستقبال رمز المحبة في قلوبهم.
كانت الزيارة قبل العشاء وقداس منتصف الليل. كانت ريتا تنتظر سليمى لتكمل معها زينة شجرة الميلاد، الزينة التي لم تضعها سليمى يوماً في منزلها في طريق الجديدة كما أحبت دوماً، نظراً لاختلاف العادات والتقاليد وتجنباً لكثرة الأسئلة من المحيطين . لم تُخفِ سليمى حبها لتزيين شجرة الميلاد في منزلها في طريق الجديدة-بيروت. ولم تُخفِ أيضاً خشيتها من أهلها الذين ربما قد يحرجونها فيما لو تجرأت على فعل ذلك.
 أمور كثيرة اختبرتها ريتا ضمن أجواء نادرة بالنسبة لها وجديدة في الآن عينه، أجواء عايشناها معاً لم تخلُ من الاسئلة المُضحكة أحياناً من سليمى عن تفاصيل اكتشفتها للتوّ.
دخلت سليمى منزل ريتا بالترحاب وكأنها عروسٌ تُزفُّ ليلة زفافها، لما لهذه الزيارة لدى أهل ريتا من رونق ومعنى ، هكذا يرحب أهل ريتا بالضيوف الكرام وخاصة بسليمى. دخلنا واذ بشجرة الميلاد تلمع من أعلاها الى أسفلها بالإضاءة وقد انتصبت وسط غرفة الجلوس. كانت ريتا قد تركت بعض الزينة لـ سليمى وهنا بدأ عنصر التشويق رغم رمزيته…
 هتفت سليمى لصديقتها ريتا "هذه الدوائر المذهبّة- boulesأين نضعها ؟ ". تضحك ريتا وتمسك بيد سليمى لتدلّها على كيفية التزيين وأمكنته الصحيحة لتكمل سليمى بعدها بشغفها القديم علّها تشارك ريتا فرحة العيد وجمالية التقاليد…
"لعل هذه الطريقة أفرحت قلب سليمى وأنعشت أمنيتها" قالت ريتا  ثم أشارت" الآن حان وقت العشاء ثم يليه قداس الميلاد".
تجلس سليمى الى العشاء، الجميع يقف لتأدية الصلاة الربيّة وتبريك الأكل قبل تناوله وتلاوة مقطع من الإنجيل المقدّس. تعلّمت سليمى ما تيّسر لذاكرتها أن تذكرته، فشاركت قدر المستطاع إيماناً منها بأن الصلاة روحانيّة وإيمان نتشارك به جميعنا لنرفع النوايا الصافية الى الله تعالى وليشعر الآخر بمشاركتنا الفعّالة النابعة من القلب والمحبة تجاهه والتضامن معه لكونه شريكاً لنا في الانسانية.
خشوع المكان المقدّس اقتياد نحو السكون الحقيقي للنفس
ذكرت " أحسست ببركة اجتاحتني طوال فترة العشاء، بطيبة انتابت دواخلي وبمحبة غمرتني من معاملة هذه العائلة لي أثناء هذه الليلة المباركة.  الصلاة والروحانية الفائحة بعطر البخور عطّرت الأجواء وزادت من حماستي، لأعرف أكثر عن معنى العيد وأهميته في صلب الديانة المسيحية، ومن هو ذاك الطفل الذي ولد في مغارة حقيرة، بعيداً عن مظاهر الغنى الذي جسّد التواضع ومن هو ذاك الذي بشّر بالمحبة والسلام "…
ليلة غير مسبوقة أمضتها سليمى عند ريتا انتهت بقدّاس منتصف الليل، هنا تحضّر الجميع للذهاب الى الكنيسة لإنهاء هذه الليلة بالقداس والتضرّع والصلاة ولتتويج الليلة المباركة بالوداعة والإيمان الحقيقي بعيداً عن القشور وهي من التعاليم التي دعا إليها السيد المسيح .
ذهب الجميع سيراً على الأقدام نظراً لقرب الكنيسة من المنزل، أعطيت سليمى ونزولاً عند طلبها، بعض التعليمات لتدخل الأجواء بسهولة.
دخلت الى الكنيسة فلفتت الأنظار بحجابها، تقدّمت نحو المقاعد الأماميّة، لتجلس في طليعة الصفوف ولتستمع الى تضرعات ونغمات الترانيم الميلاديّة وعظة الميلاد محور وجوهر العيد.
أشارت " أحسست بالقرب من الناس وبالتقارب الروحيّ أيضاً، شعرت وكأن هناك إحساساً رهيبًا اجتاحني حتى الأعماق، أسكَنْتُه صلوات وترانيم أشبه بتسبيحة الملائكة، تلك الروحانيّة العذبة أخذتني الى اللامكان واللازمان، الى عظمة التبشير بوحدانية الله الأحد، الى خبايا الروح وقدسيّة الداخل. خشوع فخشوع وهيبة المكان المقدّس وسحره، اقتياد نحو السكون الحقيقي للنفس المتخبطة بنزاعات دوّامة، ترفض الاستقرار عند برّ الأمان ولا حتى التعلّم من تجارب الماضي الجارحة. كانت هذه الليلة كافية لأعلم أهمية وجود المختلف عنّي في ديانته ولكنه قريب منّي في روحانيته. كانت هذه الليلة كافية لتشحنني بطاقة إيجابية أكبر بكثير من تلك الطاقة العاديّة التي كانت بداخلي، هي طاقة جعلتني أنضج أكثر في فهم الاختلاف الموجود،  في الجرأة على المشاركة في تقاليد وأعياد الآخر تلك الجرأة التي لم أمتلكها يوماً في السابق، مدّتني تلك الطاقة الإيجابية  بشعور جديد سيجعلني دوماً أدافع عن الاختلاف والتعايش وأعلم ماهية وجود الآخر معي في البيئة الجغرافية القريبة كشريك فعّال ليس فقط على المستوى الوطني إنما على المستوى الإنساني بامتياز ."
إنتهت ليلة سليمى التاريخية، لكن لم تنته معها الرسالة الجوهرية لخلفيّة هذا الاختبار. ليلة لن تستطع سليمى نسيانها في حياتها وستحتفظ بها كأنموذج تقتدي به وتنقله الى مجتمعها البعيد والقريب في الآن عينه، تمسكاً منها بقضية حوار الأديان وإيماناً بضرورة نقلها الى المجتمعات المُتفاعلة بهذا التنوع الغنيّ.
 لم تكن تجربة سليمى أقلّ وقعاً في نفوسنا من تجربة طوني، إنما تكامل التجربتين جعلنا ندخل في هذا الإختبار الذي جعلنا نحن أيضاً ضمن النموذج عينه، في تجربة مُصغّرة عن الواقع اللبناني كما عن سائر الأمكنة الأخرى.
 نهلنا من نبع التفاهم والحوار قدر ما استطعنا، كشباب نموذجي يعايش واقع التعايش منذ عهد الآباء والأجداد والأسلاف، عهد اؤتمنا عليه لننقل خبرتنا بموضوعية كنبض الشباب الفاعل في تصويب نظرات المجتمعات والحضارات والشعوب.
لم تكن هذه التجربة على الهامش إنما كانت تجربة هادفة وعفوية في الآن معاً، بقصد خلق عنصر لفت النظر نحو أمور أساسيّة في صلب حياتنا المتناغمة مع الآخر، قد تكون هذه المسائل عاديّة في حياة بعض الناس، لكّنها هامة في حياة الشباب الطامح الى التغيير في مجتمعه الصغير والكبير امتداداً الى مجتمعات أخرى.
****حملنا هاذين الإختبارين لنُضيء من خلالهما شعلة بسيطة في زمن كثرت فيه التأويلات، زمن أبى أن يصارع الخطأ ففرح بضلاله، زمن اعتاد أبناؤه على تشويه سمعة الاختلاف وتحويلها الى جوهر خلافيّ. في هذا الزمن وجدنا نحن الشباب الحُرّ المؤمن بقضية صائبة ومن على هذا المنبر الإعلامي، التأثير في مسيرة الكثير من الشباب في المقلب الآخر، الرافض للتغيير والمُقتنع بالخلاف وعدم الاقتراب من شركائه في الوطن والإنسانيّة. هنا استحضرنا قناعاتنا مع سليمى وطوني إيماناً منّا بدور الإعلام الهادف في حوار الأديان والثقافات معاً، وذلك لتبيان دور الشباب تجاه حوار الأديان من جهة، ومساندة الإعلام الرياديّ في إيصال حوار الثقافات والحضارات الى قِمة الطليعة.
 والهدف ليس فقط بنموذجيته فحسب، بل بالنتائج المرجوّة من ورائه من خلال ثقافة الحوار مع الآخر لدى الشباب ودورها في التواصل الحضاري وإحياء المجتمعات، بروح جديد نابض بالتغيير الذي يُجسّده جيل الشباب، جيل الألفية الجديدة.
فرضية الحوار بين شباب الغدّ، تكمن باستقلاليَّة الرأي والقدرة على تكوين أحكامهم ومواقفهم، إنطلاقاً من خبراتهم الدينيَّة الشخصيَّة ومحاولة جدّية للتحرُّر من الخلفيات المسبقة المشبعة بأفيون الطائفية. هنا الحوار لا يجب أن ينجرَّ أبداً، لا نحو الهوية الروحيّة ولا حتى التوفيق الدينيّ ولا أيضاً سحب الآخر نحو الديانة الأخرى، إنما هو ببساطة، فعل اعتراف بإمكانيات العيش المشترك في إطار عالم تعدُّدي. وعلى الاعلام التوجيهي والتربية معاً، بوصفهما مؤشرين فعّالين في درب الحياة الشبابية، أن يأخذا بعين الاعتبار، أهميَّة إعداد الشباب للعيش في مجتمع تعدُّدي عرقياً وثقافياً ودينياً.
*****حمل كل من طوني وسليمى قناعته الثاقبة من خلال هذه التجربة، لنقل مفادها في حياتهما من خلال نشاط كل منهما في جمعيات أهليّة تُعنى بالحوار والتعايش الدينيّ بين الطوائف، سيما وأن لبنان يُعتبر البلد الأغنى بطوائفه المتنوّعة(18 طائفة) التي تتعايش رغم كل الظروف السوداء التي مرَّ بها لبنان ويمرُّ بها كل يوم.
كان هدف طوني وسليمى التغيير، إنطلاقًا من مجتمعهما المُصغّر وصولاً الى العمل المهنيّ فإلى المجتمع الأكبر والأوسع ، من خلال نشاطهما الاجتماعي في حوار الأديان الذي سيساعدهما على بثّ روح التغيير على نطاق أكبر وأوسع ومن هنا لم يكن هذا الاختبار بلا هدف، إنما أصرَّ كل منهما على استنباط خلاصة رئيسية، عزما على نقلها من خلال بث روح الشباب المنفتح في النشاطات التي يقوم كل منهما بها في المجتمع.
 
النظر الى الآخر على أنه غير منافس وإن اختلفت سبل العبادة 
****** إستنتج كل من طوني وسليمى إذاً المبادىء التالية، كدستور جديد للشباب اللبناني خصوصاً والعربي عموماً ، لا بل كتوصية ولدت من رحم هذا الاختبار، إضافة الى مبادئ كل منهما، المتبلورة في العمل الاجتماعي حيث سيعملان على بثّها في مجتمع الشباب أينما حلّوا. ولعل أبرز هذه المبادىء التي استنتجها كل من نموذجي الاختبار بقناعة، تبلورت في الأُطر التالية:
– التعرُّف الى الغير هو واجب دينيّ بقصد إنشاء قاعدة لاحقة للحوار معه ولتحقيق فهم متبادل بين الديانات السماوية.
-إحترام معتقدات الغير والسعي للغوص في ثقافته للتسلّح بتقوية مناعة الأخذ والعطاء، وتحويل الجهة المجهولة لدى الآخر الى نافذة مضيئة تجعلنا نُقرُّ بأن التقرّب لا يؤذي عاداتنا البتة.
– توفير فرص للتعبير عن أفكار الشباب ضمن نموذج العلاقات الإنسانية، لأنه لولا الإنسان لم يكن الكون بحاجة لرسل وأديان. فالإنجيل المقدّس يقول: "لا تقتل"، فكيف يكون مسؤولاً عن القتل الحاصل في المجتمع بين ابناء الوطن الواحد على خلفيات طائفية ومذهبية أحياناً كثيرة؟ والقرآن الكريم الذي يقول: " إن الله لا يحب المُعتدين"، فكيف يكون مسؤولاً عن الإعتداء. إنها مسؤولية المجتمع إذا والرسالات السماوية تريد منّا الارتقاء الروحيّ والأخلاقيّ.
– الحوار ليس عملاً تبشيرياً لإقناع الآخر، إنما لقبوله كما هو بعيداً عن إلغائه وتجريحه بما فيه الخير العام للبشرية.
– الأديان تحمل جوهراً واحداً مهما اختلفت الشرع أو الطقوس، في الكنيسة أم في الجامع، فالأساس هو عبادة الله الواحد الذي سيدين البشر يوم الدينونة بالتساوي.
– الاتفاق على استبعاد كل كلمة تمس بعظمة الله.
– الإعتراف بخصوصية إيمان كل دين للحفاظ على الأخوة الإنسانية وإبراز القيم الإنسانية المشتركة كالتسامح والمحبة وحقوق الإنسان التي هي تكملة لرسالة الأديان.
 
المسيحيون في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين والعكس صحيح
****** نُجمع كمسيحيين ومسلمين في هذا الشرق، على أنَّ اللقاء مع الله يكمن أيضاً الى جانب الصلاة، بالحوار الذي هو أمر ضروري لارتقاء النفس البشريّة في سبيل خير الأمم، ذاك أن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين. كما أنَّ المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين. لذا تترتب علينا مسؤولية واحدة امام الله والأمة والتاريخ، تكمن في السعي الدائم للتواصل الخلاّق، ما يضمن برّ الأمان.
ومن هذا المنطلق فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ، بعيداً عن نماذج الحقد والفئويَّة. ولعلَّ السفر الى الآخر هو إبحار في النعيم لا مناص، كلّنا نبحث في مدرسة البشريّة بأهمية التحرّك بإخلاص نحو الآخر. والتلاقي بين أطراف الشعوب هو أشبه بالجهاز العصبي الذي يجعل لحياتنا كل المعنى والإحساس. الحوار إذن هو أكثر من مجرَّد اتصال ، إنما هو تحقيق لحالة اللقاء مع الذات والآخر و الله في الآن عينه. وهو بذلك يتطلب منا المزيد من السعي والمبادرة والصبر والاحترام وتالياً نظرة الى الاخر على أنه شريك لا منافس وإن اختلفت سبل العبادة التي يتّبعها كل طرف منّا. 
وختاماً، أذكر للتاريخ واقعة جلّل جعلت الكثير من النماذج المُعطاة في حوار الأديان تصبُّ في خانة التعايش الحقيقي، فقد تأثرت جداً كما سائر اللبنانيين لواقعة حصلت مؤخراً في مدينة طرابلس عاصمة شمال  لبنان في 23 آب 2013 وهي المدينة المعروفة بنموذج التعايش بين الإسلام والمسيحية منذ قرون، حيث تتقارب المسافات ما بين الكنائس والجوامع رغم كل الأعاصير التي عصفت بالمدينة وشعبها لتؤجج روح الطائفية فيها ولا زالت. في وسط مدينة طرابلس يقع مسجد التقوى وفي منطقة الميناء فيها يقع مسجد السلام. توقيت متقارب لليوم عينه من موعد صلاة الجمعة، وقع تفجيران إرهابيان استهدفا مسجديّ التقوى والسلام فذهب بنتيجتهما، العديد من الضحايا المسلمين الذين كانوا أثناء تأدية الصلاة او الذي كانوا يجتازون الشارع بالقرب من المسجدين حتى من الطائفة المسيحية. في المقابل كانت المحبة والاحتضان في المرصاد، ذاك أن روح الإيمان والمساعدة الذي شهدته تلك المنطقة وشعبها عقب التفجيرين ، من الجمعيات الأهلية الشبابيّة والجهات الروحيّة المسيحية، كان مذهلاً ومؤثراً نظراً للتعايش والتضامن الذي جمع هذه البقعة الجغرافية على مدى العصور. واللافت بعد أسبوع وقبل ترميم المسجدين، أن كنائس طرابلس قرعت أجراسها قبل صلاة الجمعة عنذ آذان الظهر، تعبيراً منها عن التضامن والوحدة الوطنية والتعايش المشترك، حيث تزامن قرع أجراس الكنائس مع رفع الأذان وإيذاناً بموعد الصلاة، ليذهب المؤمنون الى تلك الجوامع التي تضرّرت في الوقت المحدّد للصلاة. وفي الآن عينه هدفت هذه البادرة بشكل رئيسي، الى التأكيد على أن ما يصيب طرفاً او أمة يصيب الأخرى تلقائياً. الصلاة ارتفعت الى الخالق فوحدّت الطرفين في إطار من المحبة والتعاون ولعل هذه التجربة قد جسّدت أقوى النماذج. 
فلنتذكر الآخر دوماً في السلم كما في الحرب والدمار، على أنه أخينا في الإنسانية، بعيداً عن التعصبّ والشرذمة. 
ودمنا في حوار واعد  لمستقبل شباب الغدّ.

 

 
زلفا عسّاف