أثواب خاطتها أنوار السماء

 

 

بقلم الشيخ ربيع قبيسي

 

عندما سمعتُ لأوّل مرةٍ عن الفيلم الوثائقيّ بعنوان ( أثواب نورانية) قادتني الحشرية المعرفية للإنتظار بشوق حتى يُعرَض في المسرح اللبناني الوطني في مدينة صور بدعوة من جمعية تيرو للفنون ، لأشاهدَ أيَّ نورٍ تشرّفتُ بارتدائِه والعمل تحت ظلِّ ضيائه ، كان العنوان والمضمون مختلفَين، حالة جديدة تُطرَح في عالم الثقافة المرئيّة والمسموعة.

 

عندما دخلت المسرح الهادئ رحت أنظر إلى سكونه كَمهدِ طفلٍ عمره أيام، وموسيقته التي تحاكي الجدران والمقاعد والأضواء ، هناك صوت قاسم الإسطنبولي المخرج والفنان الذي يُزين المكان بريشة السلام والرسالة السامية للفن ، بدأتُ أترقَّبُ التفاصيلَ التي ستُشارِكني مشاهدةَ الأثواب النورانيّة بحضور صاحبة العمل والإعداد والإخراج الأستاذة زلفا عساف.
بدأ العرضُ وإرتقينا جميعاً نحو العلياء بمواكبَ من آذانٍ ونورٍ وصلوات، وأجراسُ الكنائس وهمساتُ الخلوات ، ساعة إلا بعض دقائق بصمتٍ وهدوء وسكينةٍ ووَقار نشاهد بكل جوارحِنا .. عُدْنا إلى واقعنا وفي نفوسِنا الكثير الكثير من الجمال الروحي والنفسي، حينها تبلورت في نفسي باقةٌ من العناوين سأحاول اختصارَها في هذه المقالة مع أنّني أعلم أن الكلمات لا تفي حقّ هذا العمل الكبير والإستثنائي الذي نحتاجه اليوم في وطننا لبنان ضمن محاولة العمل على صَهْر اللبنانيين بثقافة المواطنية والوطن وترك الطائفية والفتن .

 

يمكننا القول أنَّ هذا الفيلم الوثائقي يعمل على بناءِ واقع إجتماعي تعايشي وَحدَويّ مبني على الإرتباط الروحي بين الرسالات السماوية ، والمذاهب المتعددة والتي تصبُّ جميعُها في خانة قيمة الإنسان وخدمتِه وتطوّرِه لبناء مجتمعٍ يتطلَّعُ نحو المستقبل الأكمل للوصولِ إلى الأهدافِ الأسمى من خلقِ الإنسان.

 

أَثبَتَتَ المخرجة زلفا عساف أنَّها لبنانيةٌ تحاول الجمعَ بين أبناءِ الوطن وإيجاد المشتركات التي توصل إلى نجاح التجربة اللبنانية بكل مكوّناتها، لأنّ لبنان كما عبَّر البابا القدِّيس بولس الثاني {هذا البلد الذي ضُرب ألف مرة، يحاول ألف مرة أن يولد من جديد من أجل حياة جديدة ، لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالةُ حريّة ومثال على التعددية للشرق كما للغرب}، عَملَت زلفا عساف وفريقُها المساعد على تأكيد أنّ لبنانَ وطنُ سلامٍ ورسالةِ لقاء ومحبةٍ وانفتاح نحو الآخر المختلف .
إنَّنا بكل شفافية لو عَكَسْنا ألوانَ الأثوابِ التي تُسبِّح الخالقَ والتي رأيناها بكلِّ بساطةٍ وحبّ وإطمئنان في الفيلم على نمطِ حياتنا اليومية لغيَّرْنا الكثيرَ من الأفكار الفاسدة، وزرعنا مع كل خيطٍ وقطبة سنبلةَ سلامٍ ومحبة ، كي نرتقي بالمجتمع لتقبّل الإختلاف وفهمه وعدم جعله خلاف بين أبناء الإنسانية.
يمكنُنا من خلال ما قامت به المبدعة زلفا عساف أن نرسم خريطةَ طريق لفكرة التعددية وقَبول الآخر المختلف في المعتقد مع التأكيد على وحدة الهدف والغاية ، خصوصاً في لبنان البلد الأجمل الذي يستحق أن تصل أنوارُه نحو السماء كما وصلت تسبيحات أثوابه النورانية نحو تمجيد الله تعالى ، وكما عبَّر السيد موسى الصدر في إحدى خطاباته حين قال: {إنّ لبنان ضرورة حضارية للعالَم، والتعايش أمانة عالمية في أعناق اللبنانيين، وإذا سقطت تجربة لبنان فسوف تظلم التجربة الإنسانية.

 

إستخدمت المخرجة زلفا عساف في عملِها روح الجمع دون التفريق ولقاء الروح مع الروح لا لقاء القماش مع القماش وعكست جمالية الألوان والتطريز ، لأنَّها أضاءَت على تفاصيلَ لم تكن معروفةً حتى عند جزءٍ من لابسيها ، وبيَّنت تفاصيل تشاهدها الناس كلّ صباحٍ ومساء، وكلّ جمعة وأحد في الكنائس والمساجد والخلوات والحسينيات دون أن تعرف السبب في إختلافها أو ألوانها ونقوشها وتطريزها وتكويرها وسِدْلِها ، إنّها بإختصار أضاءت نافذة نحو المعرفة التي يجب أن تكون داخل المجتمع وبكل بساطه كانت موضوعية بكل تفاصيل المحتوى .

 

خلال مشاهدة الفيلم تذكّرت كم مرة سألت نفسي عن أثواب عديدة وكم سألني الناس عن أشكال ثيابٍ لا يفهمون مدلولها ، لكنني اليوم بكل ثقة أصبحت قادراً على أن أدلّهم نحو مصدرٍ موثق موضوعي شبه كامل ويكون مرجعاً حقيقياً لهذا العنوان الجامع لأنوار القلب قبل الثياب .

 

كل الشكر والتقدير لهذا العمل المميز ، تستحق المخرجة زلفا عساف خيطاً من نور أثواب المحبة والإحترام ترافقها أينما زرعت المعرفة والوعي في وطننا لبنان ، والشكر موصول إلى الصديق المخرج قاسم إسطنبولي لإستضافته هذا العمل ضمن نشاطاته السنوية التي تهدف إلى المساواة وقَبول الآخر ولقاء الثقافات مدينة صور